استيقظ (جون) في تمام الثامنة والنصف ..
و في مرحلة ما بين الصحوة والنوم خيل اليه ان موجة ما سرت في جسده كله تشبه الموجة التي تسري في سطح ماء أُلقي في وسطه حجر ..
لم يكن هناك ثمة رياح او اهتزازات في الغرفة او احدا ما يهزه مثلا ..
لكنه شعر لثانية كأن بدنه قطعة مطاط لينة جدا تهتز بتماوج عجيب ..
و فتح (جون) عيناه الجميلتان وقد زال هذا الشعور حتى انه شك انه كان حلماً ليس الا فقد كان المكان هادئا ساكنا للغاية ..
بعد ان ترك نفسه يسترخي لدقيقتين نهض (جون) لكي يرتدي ثيابه حيث قد اعتاد النوم عادة عاريا الا من (كلوته) الصغير عندما ينام بشكل عادي وليس كما يحدث عندما يسكر فينام بلا وعي حتى دون خلع حذائه ..
و وقف(جون) امام مرآة كبيرة في الزاوية وتحسس (كلوته) ثم نزعه عن نفسه ..
لم يكن يرغب في الاستحمام كما ان الوقت لن يسمح له بذلك ..
تحسس جسده امام المرآة كأنه يتفقده ثم وضع كفيه على مؤخرته كعادة الناس امام المرآة ومسح عليها قليلا ثم حك مؤخرته وهو يستدير ناظرا الى ملابسه التي على طاولة قريبة منخفضة اتجه اليها ليأخذ الملابس النظيفة عنها ..
كانت نفس العيون تلتهم مفاتن جسده وهو يتحرك وينحني لالتقاط ملابسه وترتج مؤخرته وافخاذه مع حركاته حتى اكمل ارتداء ملابسه ..
بعد ان تأكد من ان كل شيء على ما يرام خرج من الغرفة واغلق بابها وقد تنبه الى ان الباب لا يحوي مكانا لمفتاح او قفل يد وفقط مقبضاً للفتح والاغلاق فحسب أي ان أي شخص يمكنه الدخول والخروج ببساطة ..
لا شيء لديه ليخفيه هنا او يخاف عليه ..
كان اول من التقاه خادمة تحمل سلة من الخضار فسألها عن المعمل .
قالت ببساطة : عد للخلف حتى آخر الممر وستجده على يمينك مباشرة .
استدار (جون) بحركة انيقة غير مقصودة وهو يعود ادراجه للخلف ويسير عبر الممر حتى نهايته حيث وجد ان الممر يتفرع لليمين واليسار لينقسم الى ممرين قصيرين في نهاية كل منهما باب مغلق بسيط التكوين فاتجه للباب الايمن ببساطة .
طرق الباب بلطف وانتظر بصمت ومضى بعض الوقت قبل ان يأتيه صوت مكتوم يطلب منه الدخول ..
دفع الباب وعبر الى الداخل ليجد نفسه في قاعة كبيرة نسبيا انتشرت فيها الطاولات والمقاعد وامـتلأت اركانها وطاولاتها باشياء متنوعة من مختلف المواد وبعضها ماكينات وآلات عجيبة مكونة من قطع متناسقة وبعضها من قطع مختلفة وبعضها يعمل وبعضها ساكن وكان المكان خاليا الا من العالِم وثلاثة من المساعدين مختلفو الاعمار موزعين في انحاء المكان يعملون امام الطاولات تلك ويتحركون باستمرار ..
وعند دخول (جون) توقف الجميع عن العمل والتفتوا اليه ..
اثنان منهم احمرت وجوههم لا يدري لماذا وارتبكوا وواحد اسرع يتشاغل بعمل ما بيدين مرتبكتين في حين تقدم العالم من (جون) وقال مبتسما : مرحبا بك في معملي يا (جون) .. اليوم الاول لك هنا وسيكون لتتعرف الى المساعدين وكذلك الى طبيعة عملك هنا .
ثم سار العالم معه بين الطاولات و(جون) يسأل بفضول وانبهار : ما هذه الاشياء ؟ لم ار مثلها في حياتي كلها .
قال العالم : سبق ان قلت لك انني مختص بعلوم الصوتيات .. الكثيرون يختصون بهذا العالم لكن انا اختلف تماما عنهم ..فأنا لا اهتم بآلات العزف والموسيقى ولا باصوات الطبيعة واشكالها ولا بالعلوم التقليدية .. آلاتي تؤدي اعمالا مختلفة عن طريق الصوت الصادر منها .
قال (جون) بفضول : وما طبيعة تلك الاعمال المختلفة؟
قال العالم مشيرا الى اجهزته : انظر .. هذا الآلة مثلا والتي تبدو مثل مجموعة من الابواق الرفيعة المتصلة بصفائح مختلفة السمك والحجم والشكل هي عبارة عن آلة هوائية ناطقة .. كل بوق من هذه الابواق يحرك الصفائح بطريقة معينة فيصدر صوت حرف ابجدي بدلا من النغمة المفترضة .. الحروف والكلمات هي عبارة عن اهتزازات هوائية تحدث بطريقة معينة وهذه الابواق والصفائح مصممة بحيث تعطي نفس الاهتزاز الصادر عن الحبال الصوتية البشرية التي تُحدث اصوات الحروف .. لقد صنعت حتى الآن وبعد وقت وجهد كبيرين اثني عشر مسارا لاثني عشر حرفا .. ولم اكمل بعد بقية الحروف .. وعندما تكتمل سيمكنك الحديث بكلمات واضحة عبر النفخ في الابواق لاحداث اصوات الحروف.
قال (جون) مبهورا : هذا امر يشبه السحر .. سيتمكن البكم من الكلام عبرها ان اكتملت وسيمكن عبر النفخ فقط ارسال الرسائل الصوتية لمكان آخر دون ان نغادر مكاننا او حتى نتحدث مباشرة .
قال العالم مبتسما : احسنت .. هذا سيكون ممكنا عندما تكتمل الآلة يوما ما .. حقا ان الصوت الصادر عنها خشن لكنه مفهوم .. ربما يوما ما مع المزيد من البحث والتجارب نحصل على اصوات اصفى واجمل .
اشار (جون) الى آلة ذات بوق عريض قائل: وهذه مثلها ام تختلف عنها ؟.
قال العالم : هذه الآلة يفترض ان تقوم عبر الاصوات الحادة بتحطيم الصخور بواسطة ما نسميه في علم الصوتيات بالرنين .. انها قيد التجربة وتبشر بنتائج رائعة ولكنها حاليا تحطم كل ما امامها وليس الصخور فقط .
مهلا ..
مجموعة صفائح تتكلم ؟..
و مجموعة نوافخ تحطم الصخور ؟..
هل هذا الرجل مجنون يهذي ام ماذا ؟
و قال (جون) بنبرة شك خفيفة : هل حقا ما قلت ام انه مزاح يا سيدي؟
قال العالم له بنظرة عتاب : وهل هناك مزاح في العلم ؟.. بكل الاحوال سترى بنفسك صدق ما قلته وانت تجرب هذه الالات وغيرها مما سيدهش ناظريك وسمعك ويجعلك من المصدقين ..
تردد (جون) قبل ان يقول : اعرف ان هذا ليس من شأني .. لكن .. الا تكلف هذه الامور اموالا طائلة ؟ لم ار مثلها في الاسواق او عند الناس اي انك لا تتاجر بها فكيف تتدبر تكاليفها الباهظة خاصة انني لم ار لك تجارة او عملا آخر ؟.
تبسم العالم وقال : هذه الاشياء لا تباع للعامة حاليا يا صغيري .. العامة لا يحسنون استخدامها .. ما سأقوله لك يجب ان يبقى سرا لا يباح لأحد مهما كان .. انا ابيع بعض المخترعات لفئة معينة من الناس .. علماء .. حكماء .. اعيان وكبار الدولة .. بالطبع اكتب عليهم تعهدات وآخذ منهم ضمانات بشأن سرية هذه المخترعات التي اصنعها لهم خصيصا حسب الحاجة والطلب وتكلفهم ثروات كبيرة .. وهي تؤدي عملها جيدا في مجالات حياتهم .
قال (جون) : لماذا لا تصنع لنفسك مثلها في قصرك اذن ؟
ضحك العالم ضحكة خفيفة وقال : من قال هذا ؟.. الم تلاحظ كيف تم ايقاظك اليوم صباحا؟.. موجة صوتية ناعمة تعبر جسدك من قدميك حتى رأسك فتبعث فيك النشاط واليقظة دون اية آثار سلبية او غير مرغوبة .
تبسم (جون) وهو يتذكر طريقة استيقاظه في الصباح ..
حقا ان عالم الصوتيات عالم مدهش وغريب ..
و مربح جدا كذلك ..
سأل (جون) العالم فجأة : ترى كيف تحمي نفسك من اللصوص وغيرهم ؟ هل تصنع اسلحة بالصوتيات ايضا؟ .
صمت العالم فترة قبل ان يجيب وهو يشيح بوجهه جانبا : من يتلقون خدماتي يتولون حمايتي.. فانا بالنسبة لهم كنز يجب الحفاظ عليه بقوة .
شعر (جون) ان العالم لا يريد الحديث بهذا الموضوع فسكت ..
و تابع العالم كمن يريد تغيير الموضوع : هل تذكر حديثنا في المقهى عن قيثارة (اورفيوس) ومزمار (هاملن) ؟ .. النغمات تخاطب عقل المخلوقات وتحدث فيها تغييرات كيميائية بعضها مؤقت وبعضها طويل المدى وربما يستغرق سنوات العمر قبل الزوال .. المشكلة في ابتكار مثل هذه الادوات تتعلق ببعض الامور مثل اختلاف الادمغة وقدراتها والتأثير المطلوب احداثه فيها وكيف يمكن اعطاء امر محدد لشخص او جماعة ما ..و كذلك ان من يطلق الصوت سيتأثر تبعا لارتداد الصوت فهو سيسمعه مثلهم كذلك ..
قال (جون) : لدي ربما فكرة تحل هذه المشكلة .
التفت الجميع اليه بفضول ..
و لاحظ جون لأول مرة ان احد المساعدين اصغر منه عمرا ويتمتع بجمال مقبول يكاد يشبه جمال الفتيات وهو امرد تماما ..
يبدو انه تلميذ جديد مثله ..
و سأله العالم باهتمام : بم تفكر يا (جون) .. هات ما لديك .
قبل ان يجيب جون انفتح باب المعمل وعبرته فتاة مراهقة بالغة الجمال بشعر ذهبي ناعم يكاد يصل الى كتفيها يستدير بنعومة فوق رأسها مثل قبة انيقة وينسدل من الخلف على رقبتها البيضاء الرائعة ولها عيون خضراء صافية كالزجاج ووجها يركع الجمال امام جماله وجسدا ممشوقا اهيفا رائعا وهي ترتدي ثوبا جميلا بسيطا ناعما ابيضا زادها جمالا ..
و فور دخولها قالت بصوت رقيق ساخر : مرحبا .. هل من احد هنا ؟
قال العالم بضيق خفيف : (سارة) .. ما الذي تفعلينه هنا ؟.. الف مرة قلت لك ان لا تعبري هذا الباب دون والدتك او احد العاملين .. هنا مكان خطر احيانا .
اشارت الى (جون) قائلة بعناد : ها .. ما الذي ارى ؟ .. ضيف؟ .. اذن سأبقى .
عقد العالم حاجبيه بضيق والتفت الى (جون) قائلا : تابع يا (جون) كلامك .. هيا .. فلدي الكثير من الاعمال .
تحركت الفتاة وهي تتجول قرب الطاولات ..
و وقفت امام ما يشبه المرآة الكبيرة التي تعكس الضوء دون قصد ..
كان جسدها بالكامل واضحا تماما من تحت الثوب الرقيق بسبب الضوء ..
و لم ينتبه العالم ولا هي بعكس البقية لهذا الامر ..
و شعر (جون) بالارتباك امام هذا المنظر لكنه قال : انا لا اعرف امرا في الصوتيات هذه لكن خطر لي ان تدمج تلك الالة التي تحول النفخات الى حروف مع آلة الافكار هذه بحيث تنفخ كلمات مخفية غير مسموعة نحو من تريد ايصال الافكار له .. اما مسألة سماعك لنفس اوامرك فالحل اعتقد يوجد لدى طيور الاوز .
تألقت عينا العالم وقال بانفعال : عبقري انت يا فتى .. كيف لم يخطر لي هذا الامر رغم طول خبرتي وغزارة علومي ؟
قالت الفتاة وهي تعاود الحركة وتذهب شفافية ثوبها حيث بان الاحباط على وجوه المساعدين ومنهم (جون) : هل ستعيّن اوزة كمساعد لك يا جدي ؟.
جدها ؟..
قال العالم بشغف : الاوز هو الطائر الوحيد الذي يجيد اخفاء صدى صوته .. يعتقد الكل ان صوته لا صدى له .. لكن الحقيقة التي يجهلها معظم الناس هي انه يخدع اعداءه بإخفاء ذاك الصدى عبر ..
لم يستمع المساعدون ولا (جون) نفسه لبقية كلامه بل ظهر البشر على وجوههم و(سارة) تقف مديرة ظهرها لهم امام مرآة اخرى تعبث بشيء ما وقد عاد جسدها الشهي للظهور كأنها عارية تماما ..
فهي لا تردي تحت ثوبها الا (كلوتا) رفيعا بالكاد يغطي فرجها فقط اما صدرها الشبيه بصدور الغلمان فلم يغطه شيء حيث ان اثدائها لا تكاد تبين ..
كان العالم مستمرا بالشرح بحماس دون ان يعي انه يكلم نفسه بحماسة ..
و عادت (سارة) للتحرك وعادت وجوه المساعدين تعبس ..
و انتبه (جون) الى نفسه وان العالم قد صمت فاسرع يقول : وكيف يمكن التغلب على مسألة ارتداد الصوت هذه؟ نحن لا نتقن الامر مثل الاوز .. وحتى الاوز يسمع بعضه بعضا بلا شك .
قال العالم بحماسة : لدي الحل فعلا لكنه بحاجة الى تطوير .. هنا مصافٍ للصوت تماما كمصافي المياه مع الفارق طبعا .. يمكن تطويرها لتختفي في الاذن ويمكن صنعها لتناسب معظم انواع الصوتيات التحكيمة هذه ان تم ابتكارها .
كان المساعدون يتابعون (سارة) وقد بانت اللهفة في عيونهم وهي تقترب من مرآة جديدة بخطوات متمهلة ..
لكن الخيبة علت وجوههم عندما توقفت قبل ان تصلها واستدارت صوب العالم قائلة : هل ستعلق على اذني هذا المسكين كومة من المعادن تلك ؟ لن يكون شكله لطيفا وقتها اطلاقا .
التفت العالم الى مساعديه وقال من بين اسنانه : (جورج).. اوصل سارة الى حيث امها حالا فلا شك انها تبحث عنها .
جفل المساعد الاول وقال : لا استطيع ترك ما اعمل عليه والا تلف تماما.
قال العالم للآخر : وماذا عنك يا (جاك) ؟
قال المساعد الصغير الوسيم برجاء مضحك : سيدي ارجوك .. اخر مرة تعلم ماذا فعلت بي.. لقد ..
قاطعه العالم بتبرم قائلا : اعلم .. اعلم .. حسنا .
(جاك) ..
ذكره الاسم بصديقه الذي رفض المجيء معه ..
و هز العالم رأسه والتفت الى الثالث قائلا بضيق : اعلم ما ستقول .. انت لا يمكنك ترك المكان ابدا .
ثم التفت الى (جون) متابعا : لم يبق سواك .. خذها الى حيث الطرف الشرقي للحدائق واتركها مع والدتها هناك ولا تقلق بشأن الوقت فانا اعلم انها لا تحب الخروج من هنا وستجد صعوبة في ايصالها .. تأكد من وصولها لامها فهي ستحاول مغافلتك والعودة هنا ونحن كما ترى مشغولون تماما .
و التفت الى (سارة) قائلا بحزم : هيا .. تعرفين طريقك فانطلقي معه .
رغم ضيقها الا ان (سارة) اطاعت كلام جدها وانطلقت صوب الباب بتذمر ولحق بها (جون) منفذا كلام استاذه ..
بعكس ما توقع فقد سارت (سارة) معه ببساطة وهدوء حتى خرجا من القصر واتجها صوب المكان البعيد والمليء بالخمائل والاشجار والمنابيع والقنوات المائية وتناثرت به اكواخ متباعدة انيقة والكثير مما يسر البال ..
عندما لاحظ صمتها قال : هال والداك هنا ؟ .
لم تجبه فشعر بالحرج وقال محاولا تخفيف الجو : هل استاذنا جدك لوالدك ام والدتك ؟
قالت : والدي مات في رحلة استكشافية حمقاء وانا لا زلت طفلة .. واستاذك هو المسئول عن موت ابنه لانه كان مثل ابيه شغوفا بالعلم وقد وافق والده على تمويل رحلته الاخيرة دون تردد .
قال (جون) : انه امر مؤسف ..هل لهاذا تكرهين جدك؟.
قالت : حقا لا احبه لكني لا اكرهه ابدا .. هو طيب القلب ويحاول اسعادي وامي بشتى الطرق وتكفل بنا حتى قبل موت ابي وبلا شك انه حزن على ابنه للغاية .. لكني لا اقدر ان انسى ان ابي مات بسبب شغف جدي العلمي وانه من مول رحلته الى تلك الجبال اللعينة حيث لم يعد لا هو ولا من معه منها حتى اليوم ..
كانت تشير الى الجبال التي رآها (جون) من نافذة غرفته .
و شعر هو بقشعريرة باردة ..
هل سيرسله العالم المجنون هذا الى هناك كما فعل مع ابنه ويضحي به كذلك في سبيل العلم هو ايضا ؟..
و نفض افكاره على صوت (سارة) تقول : ها قد اقتربنا .. قد تكون امي نائمة كعادتها في كوخها المفضل وعلينا ان لا نزعجها والا احالت يومنا انا وانت وجدي وكل من حولها الى جحيم .
سارا بحذر حتى بلغا كوخا جميلا مغلق الباب والنوافذ ..
تقدمت (سارة) و(جون) صوب النافذة وبحرص شديد فتحت (سارة) جزءا صغيرا من النافذة تكفي لإلقاء نظرة على الداخل واطلت بطرف عينها منها وخلفها (جون) يطل من فوق رأسها وقد التصق جسده بجسدها من الخلف دون قصد .
كان ما شاهداه لا ولم ولن يخطر ابدا على بال أي منهما .
-يتبع -